اقتصاد المعنى- هل تعيد المصرفية الإسلامية المال إلى جوهره الأخلاقي؟

المؤلف: محمد زكريا فضل09.06.2025
اقتصاد المعنى- هل تعيد المصرفية الإسلامية المال إلى جوهره الأخلاقي؟

في ربوع دلتا النيل الخصبة، وتحديدًا في إحدى قراها الوادعة، بزغت عام 1963 فكرة رائدة، أطلقها الدكتور أحمد عبدالعزيز النجار، الذي عاد من ألمانيا ليس باحثًا عن بديل متوافق مع الشريعة للتمويل الغربي فحسب، بل كان شغوفًا باستكشاف معنى المال الحقيقي وجوهره.

لم يكن المال في نظره مجرد سلعة قابلة للبيع والشراء، بل أمانة عظيمة لإعمار الأرض وتنميتها، وأداة قادرة على استعادة التوازن الدقيق بين الإنسان واحتياجاته الأساسية. ومن خلال ما أسماه "بنوك الادخار المحلية" في مدينة "ميت غمر"، وضع النجار اللبنات الأولى لنموذج فريد، يمكن اعتباره اليوم تجسيدًا حيًا لـ "اقتصاد المعنى". في هذا النموذج، لم يكن المال يُباع كسلعة، بل يُستثمر بالشراكة والتعاون، ويتقاسم الأفراد عوائده ومخاطره بوعي ومسؤولية كاملة.

ومع انتقال هذه التجربة الملهمة من نطاقها المحلي المحدود إلى رحاب المؤسسات الأوسع، بدأت تتبلور وتتشكل الملامح الأولية لمنظومة مصرفية إسلامية متكاملة وشاملة. ففي عام 1975، تأسس أول مصرف إسلامي مستقل في إمارة دبي، تبع ذلك في العام نفسه إنشاء البنك الإسلامي للتنمية في مدينة جدة، ليكون بمثابة الذراع التنموية التعاونية لهذه المنظومة. ثم جاءت تجربة السودان الرائدة في أوائل الثمانينيات، عندما قام بتطبيق النظام المصرفي الإسلامي بشكل كامل وشامل.

وعلى مر العقود اللاحقة، شهدت المصرفية الإسلامية نموًا وانتشارًا واسعًا، وتحوّلت من مجرد مبادرة طموحة إلى صناعة مالية ضخمة تحتفل بعقدها الخامس، حيث تجاوزت أصولها حاجز الـ 4.5 تريليونات دولار، وتشكل المصارف الإسلامية منها أكثر من 70%. وتُصدر هذه المصارف سنويًا صكوكًا تتجاوز قيمتها 200 مليار دولار، لتمويل مشاريع حيوية واستراتيجية في مجالات الطاقة المتجددة، والتعليم المتميز، والتنمية المستدامة. ومع ذلك، لا يزال السؤال الجوهري يتردد صداه: هل حافظت المصرفية الإسلامية على التزامها برسالتها القيمية النبيلة، أم أنها تحوّلت إلى نسخة نمطية بلغة شرعية مُنمقة؟

في هذا السياق المعقد، يبرز مفهوم "اقتصاد المعنى" كإطار تحليلي ضروري لفهم المصرفية الإسلامية من الداخل، ليس فقط باعتبارها منظومة خالية من الربا المحرم، بل كمحاولة جادة لإنتاج نماذج مالية مبتكرة تتجاوز منطق الربحية الضيق إلى غايات أسمى، تعيد الاعتبار للمال كوسيلة لتحقيق الكرامة الإنسانية وإعمار الكون.

وهنا يكمن الاختلاف الجوهري بين "اقتصاد المعنى" ومفاهيم أخرى قريبة منه، مثل اقتصاد السعادة، الذي يربط المال بالرضا النفسي، والاقتصاد السلوكي، الذي يفسّر السلوك المالي وفقًا للانحيازات الإدراكية. فـ "اقتصاد المعنى" يعيد تموضع المال في مركز القيمة، حيث لا يُقاس النجاح بالربح المادي فقط، بل بما أحدثه المال من نفع حقيقي، وعدل شامل، وتنمية مستدامة. فبينما تسأل بعض النماذج: كم ربحت؟ يسأل اقتصاد المعنى: لمن ربحت؟ وبأي أثر؟

كما يتقاطع "اقتصاد المعنى" منهجيًا مع "نظرية المآلات" في الفقه الإسلامي، دون أن يتطابق معها مفهوميًا بشكل كامل، حيث يركز على السياق المؤسسي الأوسع والرسالة الأعمق للنشاط المالي، وليس فقط على العواقب المباشرة للأفعال.

وبهذا، لا يتعارض "اقتصاد المعنى" مع تلك النظريات الأخرى، بل يبني عليها ويعمقها، ويعيد الاعتبار لفلسفة التزكية، والعدل، والاستعمار الأخلاقي للأرض، باعتبارها مرجعيات معيارية أساسية لأي نشاط مالي. وبهذا المعنى، فإننا لا ندعو إلى الانعزال عن السوق، بل إلى الحضور الفاعل فيها بشروط ترفع من شأن المقصد، وتحافظ على مكانة الإنسان في مركز المعادلة، لا في هامش العائد.

وانطلاقًا من هذا التأصيل النظري، ينطلق المقال عبر ثلاثة محاور مترابطة ومتكاملة. فيتأمل، أولًا، في التصور الإسلامي لوظيفة المال مقارنةً بالنماذج الاقتصادية الوضعية السائدة، ثم يتتبع كيف حاولت المصرفية الإسلامية تجسيد هذا التصور النبيل عبر هياكلها التمويلية المبتكرة ومؤسساتها التشغيلية الفعالة، وأخيرًا، يتوقف مليًا عند سؤال التحدي والبقاء: هل ما زالت هذه المنظومة تحتفظ بجوهرها الأخلاقي الأصيل، أم أنها انزلقت إلى تَشييء المال (reification of money) تحت ضغط الامتثال والمنافسة الشرسة؟

المال في التصور الإسلامي.. أداة لا غاية

من بين المفاهيم التي تتردد على ألسنتنا يوميًا دون كثير من التفكير العميق، يبرز مفهوم المال، ليس فقط كوسيلة للتبادل التجاري؛ بل كأحد أكثر المفاهيم ارتباطًا بمصير الإنسان ووجوده. غير أنّ غموض هذا المصطلح قد يحجب دلالته الحقيقية. فـ "المال" ليس هو "النقد" المتداول في الأسواق فحسب، ولا هو "الثروة" المدَّخَرة في البنوك فقط؛ ولا يقتصر على الممتلكات الخاصة أو الدخول والهبات.

إنه مفهوم أوسع وأشمل من ذلك بكثير؛ إذ يشمل كل ما له قيمة قابلة للتملك والانتفاع، سواء أكان عينًا مادية أم منفعة معنوية، أو مادة ملموسة أو حقًا مجردًا. فالنقد ما هو إلا فرع من المال، والثروة مظهر من مظاهره، والاقتصاد برمته يدور في فلكه وتأثيره.

هذه الحقيقة تبدو بسيطة وواضحة؛ لكنها تحوّلت عبر التاريخ إلى معركة فلسفية واقتصادية عميقة بين رؤيتين متباينتين ومتعارضتين: رؤية تُقدّس المال وتجعله غاية، وأخرى تُقيّده بوظيفة أخلاقية سامية، وتنظر إلى آثاره المجتمعية والإنسانية.

ففي النظام الرأسمالي المعاصر، وامتداده الليبرالي المتطرف، عُرّف المال في جوهره بأنه «وسيلةٌ للتبادل، ومخزن للقيمة، وأداة لتحديد الأسعار». غير أنّ هذا التعريف المحايد، سرعان ما تغيّر وتبدّل حين تَحوّل المال إلى غاية في حد ذاته، ومطلبًا يسعى الجميع لتحقيقه.

فمع تصاعد الفردانية وتراجع المرجعيات الأخلاقية والقيمية، أصبح المال في الفكر الغربي لا يُعرّف فقط بوظائفه الاقتصادية، بل بدلالاته الاجتماعية والثقافية، مثل: النجاح الباهر، والمكانة المرموقة، والهيمنة المطلقة.

وربما كان عالم الاجتماع الألماني الشهير "ماكس فيبر" أبرز من أظهر هذا التحوّل الجذري، حين ربط بين الأخلاق البروتستانتية وصعود الرأسمالية، موضحًا كيف أصبح السعي الحثيث لجمع المال نوعًا من التديّن الجديد؛ "علامة على رضا الرب"، ولكن بلغة الأسواق ومصطلحات التجارة. فالمال لم يُعَدّ مجرد وسيلة لتحقيق الأهداف، بل أصبح دينًا جديدًا بلا معابد أو شعائر.

وفي المقابل، يتعامل التصور الإسلامي مع المال بوصفه أداة محايدة، لا تكتسب قيمتها من ذاتها، بل من طريقة اكتسابها وإنفاقها في وجوه الخير. فالمال مخلوق من خلق الله، لا خالق، ومنحة إلهية لا هوية مستقلة. قال تعالى: ﴿وأنفقوا مما جعلكم مُستَخلَفين فيه… الآية﴾ [الحديد: 7]، ليؤكد أنّ المُلك الحقيقي لله وحده، وأنّ الإنسان مجرد وكيل يُحاسَب لا على الكم فقط، بل على الكيف والجودة.

وتأطيرًا لهذا المعنى الأخلاقي العميق، عبّر عنه النبي ﷺ بقوله: "لا تزولُ قدَما عبد يومَ القيامة حتَّى يسألَ عن عمره فيما أفناهُ، وعن علمه فيمَ فعلَ، وعن ماله من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمه فيمَ أبلاهُ." [أخرجه الترمذي]، ليُحيل العلاقة بالمال من مجرد نشاط اقتصادي بحت، إلى سؤال وجودي عميق، ومسؤولية أخروية عظيمة. فالمال في هذا التصور ليس رصيدًا بنكيًّا جامدًا، بل هو أثرٌ في النفس، وأمانة في اليد، ومآل في الحساب يوم القيامة.

وقد نَظَر العلامة الطاهر بن عاشور إلى المال من زاويتين تكشفان عن عمق التصور المقاصدي له في الإسلام؛ فهو من جهة "ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس، في تناول الضروريات والحاجيات والتحسينيات بحسب مبلغ حضارتهم، حاصلًا بكدح"، ومن جهة أخرى يرى أن المال "حقٌ للأمة عائد عليها بالغنى عن الغير".

فليست الغاية من المال مجرد التملك الشخصي أو التراكم غير المحدود؛ بل تحقيق الكفاية الذاتية والتوازن الاجتماعي العادل، في إطار يجعل منه وسيلةً للكرامة الإنسانية لا أداةً للهيمنة والاستغلال، وشراكةً حقيقية في الإعمار والتنمية لا استئثارًا بالمنفعة والمصالح.

وهنا يُعاد ترتيب الوظائف الأساسية للمال: لا قيمة للمال إلا بقدر ما يحقق من كرامة للإنسان، وعدالة للمجتمع، وتعمير للأرض. فالمال ليس سلعةٌ تُباع وتشترى بشكل مستقل؛ بل قيمة أخلاقية سامية تؤسس لعلاقة متوازنة بين الفرد والمجتمع، وبين الغاية والوسيلة، وبين السلطة والمسؤولية.

ذلك التباين العميق بين "المال كوسيلة" و"المال كغاية"، هو ما يفتح الباب على مصراعيه لفكرة "اقتصاد المعنى"؛ حيث لا تُقاس الثروة بالعائد المادي وحده؛ ولكن بوظيفتها الأخلاقية السامية ومآلاتها المجتمعية والإنسانية.

ومن هنا، جاءت المصرفية الإسلامية كتجربة مؤسسية فريدة تسعى جاهدة لتجسيد هذا التصور النبيل، عبر نماذج تمويلية مبتكرة تقوم على المشاركة الفعالة والإنتاج الحقيقي لا الربا المحرم، وعلى تقاسم المخاطر المحتملة لا ضمان العائد الثابت.

ومع التوسع الكبير في أكثر من 80 دولة حول العالم، وبلوغها نطاق المؤسسات السيادية الكبرى، باتت هذه المصرفية جزءًا لا يتجزأ من السوق المالية العالمية؛ لكنها في الوقت نفسه تواجه سؤالًا وجوديًا متجددًا، ألا وهو: هل لا تزال تُعَبّر بصدق عن جوهرها الأخلاقي الأصيل، أم أنها تحوّلت إلى نسخة مألوفة ومُنمقة.. بلغة مأذونة وموافقة؟

فبين صكوك تُسَوَّق ببراعة باسم الاستدامة البيئية، ومؤسسات رقمية تتزيّن بلغة الشريعة السمحة، يتأرجح المشروع بين الوعد الجميل والمراوحة في المكان، وبين المعنى العميق الذي أطلقه الرواد الأوائل، والواقع الصعب الذي تفرضه قواعد البورصة وتقلبات السوق.

المصرفية الإسلامية: محاولة لبناء مؤسسات ذات معنى

حين ننتقل من الحبر على الورق إلى الواقع العملي، ومن التنظير الفكري إلى البناء المؤسسي، تتجلّى المصرفية الإسلامية كمحاولة جادة لاختبار فكرة "اقتصاد المعنى" في الواقع المؤسسي المعقد. فلم تأتِ هذه المصارف لتبديل الأسماء والمصطلحات فقط، ولا لتلوين المعاملات التجارية بلغة دينية مُنمقة؛ بل جاءت لتمنح المال وظيفة أخلاقية سامية، وتجعل من كل عقد تجاري مرآةً تعكس قيمة إنسانية نبيلة، ومن كل صيغة استثمارية بابًا مفتوحًا لكرامة الإنسان وعزته. ففي هذا المشروع الطموح، لم يكن المال هو الهدف النهائي؛ بل مجرد جسر لتحقيق غايات أسمى، ولم يكن المصرف مجرد مؤسسة لتكديس الأرقام وزيادة الأرباح؛ بل لبناء حياة كريمة تستحق أن تُعاش.

وقد بدأت هذه الفكرة من تلك الشرارة الأولى التي انطلقت في مدينة "ميت غمر"، حين أراد النجار أن يُحرّر المال من منطق الجشع والطمع إلى أفق المشاركة والتعاون، ومن لغة الربح المادي فقط إلى منطق التنمية الشاملة بالمعنى الإنساني.

لقد غُرست البذرة هناك، في مشروع بدا متواضعًا في حجمه وإمكاناته، لكنه كان جسورًا في روحه وطموحه. وما أن خرجت الفكرة من الضيق إلى السعة، حتى بدأت تنمو بهدوء وثبات، من السودان إلى الخليج العربي، ومن إسطنبول إلى جاكرتا، ومن كوالالمبور إلى نواكشوط، ومن لاهور إلى لاغوس. في كل محطة من هذه المحطات، كانت التجربة المصرفية الإسلامية تحمل ملامح السياق المحلي وثقافة المجتمع؛ لكنها في الوقت نفسه تعود لتتغذى على الجذر ذاته: المال ليس سلعة، بل أمانة عظيمة.

ولأن الرؤية مهما علت وارتقى شأنها لا تثمر إلا حين تُترجم إلى واقع عملي ملموس، حاولت هذه المصارف أن تخلق من داخلها نموذجًا فريدًا يُعكس فلسفتها وقيمها. فكان التمويل التشاركي هو القلب النابض لهذا الجسد المؤسسي.

ففي عقد المشاركة، يُعيد الطرفان تعريف العلاقة بينهما من "دائن ومدين" إلى "شريكين متساويين في البناء والازدهار". وكل طرف يضع من ماله قدرًا معينًا، ويتقاسمان الربح الناتج وفق اتفاق مسبق وشفاف، ويتحملان الخسارة المحتملة بقدر المساهمة من رأس المال.

أمّا المشاركة المتناقصة، فهي صيغةٌ تحمل في طيّاتها فكرة التمكين التدريجي للفرد؛ حيث يبدأ العميل شريكًا مع المصرف، ثم يقوم بشراء حصص المصرف تدريجيًا حتى ينفرد بالملكية الكاملة، ما يجعل العقد أشبه بسُلّم تصاعدي نحو الاستقلال المالي والاكتفاء الذاتي.

وفي المضاربة، يستثمر المصرف المال المتاح لديه، ويستثمر العميل الجهد والخبرة، في علاقة تُبنى على الأمانة والثقة المتبادلة لا الضمانات المادية، وعلى الثقة العميقة لا الفائدة الربوية. أمّا الإجارة المنتهية بالتمليك، فقد كانت جسرًا ثالثًا يتيح للعميل استخدام الأصل والانتفاع به، ثم امتلاكه بشكل كامل بعد سداد الأقساط المتفق عليها، مع وضوح الشروط، وضبط الالتزامات، دون أن يُفضي ذلك إلى تداخل يُربك المقاصد الشرعية، أو يختلّ به حدّ الفصل بين العقود المختلفة.

ليست هذه الصيغ مجرد أدوات تمويلية جامدة؛ بل هي تجسيد عملي لمفهوم "اقتصاد المعنى" الذي يربط العقود التجارية بالثقة المتبادلة، والمسؤولية المشتركة، والإنتاج الحقيقي الذي يعود بالنفع على المجتمع.

فقد سعت المصرفية الإسلامية في بداياتها المشرقة إلى إحياء الغايات النبيلة لا مجرد أسلمة العمليات الروتينية. لكن مع مرور الوقت، تقلصت أهمية بعض الصيغ المبتكرة، وتحوّلت إلى إجراءات شكلية خالية من الروح، وظهرت أدوات تحاكي الربا المحرم في الشكل دون تسميته الصريحة، فيما غلب في بعض المؤسسات الصوت الكمي للأرقام على الرؤية المقاصدية الشاملة، فصار التقييم يركز على التوافق مع المعايير الشكلية لا تحقيق العدالة الحقيقية والمعنى العميق.

وهكذا، اتّسعت الفجوة بين اقتصاد الامتثال الشكلي واقتصاد المعنى الحقيقي، وباتت بعض المؤسسات المصرفية تتحدث لغة الأرقام بدقة ووضوح؛ لكنها تهمس بلغة القيم النبيلة بخجل وتردد. لا لخلل جوهري في المبادئ؛ بل لأنّ السوق يكافئ النمو السريع أكثر مما يكافئ الانسجام الأخلاقي والقيمي.

وعلى الرغم مما شهدته التجربة المصرفية الإسلامية من تحولات وتطورات، لا تزال جذوة المعنى مشتعلة في مؤسسات صامتة لكنها صادقة، تُعيد الروح للمصرفية الإسلامية من خلال التمويل الأصغر الموجه للفئات المحرومة، والمبادرات الوقفية التي تدعم المشاريع الخيرية، والشراكات المجتمعية التي تخدم الصالح العام. فالمعنى الحقيقي للمال لا يُكتب في اللوائح والقوانين؛ بل يُترجم في الضمير الحي، ويتجلى في النية الصادقة، وليس فقط في تجنّب الفائدة الربوية. فالتساؤل الأهم ليس عن حجم الأصول المالية؛ بل عن جوهر الرسالة الإنسانية التي تحملها المصرفية الإسلامية.

فهل تجرؤ هذه المؤسسات المصرفية، وقد بلغت من النضج والخبرة ما بلغت، أن تعود لتسأل نفسها بصدق: لماذا وُجدنا؟ وهل ما زلنا نحمل هذا المعنى العميق الذي لأجله وُلدنا؟ ذلك هو السؤال الحقيقي الذي يستحق البحث والتفكير.. وكل الباقي مجرد تفاصيل هامشية.

التحدي البنيوي.. ضغوط السوق وسؤال البقاء

بكل هدوء وتأنٍّ، تأتي تلك اللحظة الحاسمة والفاصلة بين الفكرة وتطبيقها، بين الرؤية والواقع المعيش؛ لتطرح السؤال الأصعب والأكثر إلحاحًا: هل ما زالت المصرفية الإسلامية تحفظ "المعنى" العميق الذي وُلدت من أجله، في عالم تملي فيه السوق شروطها الصعبة، وتُحاصر لوائح الامتثال هامش الاختيار المتاح؟

فبعد أن انطلقت المصرفية الإسلامية من تصور يرى المال أمانة عظيمة لا مجرد غاية، ووسيلةً للإعمار والتنمية لا للاحتكار والاستغلال، تجد اليوم نفسها أمام اختبار وجوديّ عسير وشاق، لا يقف عند حدود التنظير الفكري؛ بل يتطلب إعادة مساءلة الأساس الذي عليه بُنيت؛ ليستقيم التصوير وتتضح الرؤية.

ففي بيئة مصرفية عالمية تحكمها الربحية والكفاءة المادية، تواجه المصرفية الإسلامية ضغوطًا متزايدة من ثلاث جبهات رئيسية: الامتثال التنظيمي الصارم، والمنافسة السوقية الشرسة، ومتطلبات العائد المرتفع.

لم يعد يُنظر إلى المصرفية الإسلامية من زاوية قيمتها الأخلاقية والإنسانية، بل بقدرتها على التكيّف السريع مع مؤشرات الأداء المالي والرقابة الصارمة. وبدل ابتكار أدوات جديدة تُعبّر بصدق عن رؤيتها المتميزة، انزلقت بعض المؤسسات إلى "أسلمة الأدوات التقليدية"، فغدت المرابحة تُشابه الفائدة الربوية، والإجارة تضمن الأرباح دون تقاسم حقيقي للمخاطر، والمشاركة تُفرغ من معناها التمكيني النبيل.

وامتد التحدي من الأدوات المالية إلى العقل المؤسسي ذاته؛ حيث تغلب الحسابات الكمية على الاجتهاد المقاصدي الشامل، وتُدار الصيغ الاستثمارية بلغة الجداول والأرقام لا بروح الغايات النبيلة، فتُختزل فكرة التمويل القيمي إلى توافق شكلي مع المعايير القياسية.

فالمطلوب إذن، ليس رفض السوق تمامًا؛ بل استعادة التوازن الدقيق بين الامتثال والمقصد، وبين المنافسة الشرسة والرسالة الإنسانية. فالمصرفية الإسلامية وُجدت لا لتقلد الآخرين؛ بل لتُعبّر عن رؤية أصيلة تُعيد للمال قيمته الحقيقية، وللمؤسسة معناها السامي. والسؤال الذي ينبغي طرحه اليوم، هو: هل نملك الشجاعة الكافية لبناء أدوات مالية جديدة تعبّر بصدق عن رؤيتنا المتميزة.. لا تُشابه غيرنا من النماذج التقليدية؟

ما بعد القول.. وما قبل الإجابة

في المصرفية الإسلامية، لم يكن الغرض مجرد إنتاج أدوات مالية متوافقة مع الشريعة فحسب؛ بل إعادة صياغة العلاقة المعقدة بين المال والإنسان. فقد وُلدت هذه التجربة الفريدة قبل خمسة عقود تقريبًا في لحظة حضارية حرجة، لتقدّم بديلًا أخلاقيًّا في عالم يُعامل المال كأداة سيطرة لا وسيلة إعمار. لم تكن مجرد تعديل تقني بسيط على النموذج الرأسمالي السائد؛ بل دعوة صريحة لإعادة الاعتبار للإنسان والعَقد والقيمة، ضمن ما يمكن تسميته باقتصاد المعنى الحقيقي.

لكن مع مرور الزمن، تآكلت بعض جوانب هذه الرؤية النبيلة تحت ضغط الامتثال للوائح السوق الصارمة، فانزلقت مؤسسات مالية إلى تكرار أدوات تقليدية بأسماء شرعية مُنمقة، وابتعدت عن تحقيق المقاصد الشرعية السامية إلى حسابات الربحية المادية وحدها.

فقوة المصرفية الإسلامية لا تُقاس بعدد الصكوك المصدرة ولا بحجم الميزانيات الضخمة؛ بل بقدرتها الحقيقية على الوفاء برسالتها الأساسية بأن تكون أداة تحرير لا تدوير، ومؤسسة تعيد للمال معناه الحقيقي، لا تسلبه روحه الإنسانية. ففي زمن تجتاحه الأشكال البراقة، تبقى المعاني وحدها قادرة على البقاء والخلود.

والسؤال الجوهري الذي يظل يُلحّ على الضمير المهني والأخلاقي معًا،هو: هل يكفي ألا تكون المصرفية الإسلامية ربويّة بالمعنى القانوني أم يجب أن تكون رحيمة وعادلة أيضًا في تعاملاتها؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة